newsletter

اشتراك في نشرتنا الإخبارية لتلقي آخر التحديثات





















اتجاهات اضواء مشاهير مناسبات منوعات

في صناعة موسيقية تُهيمن عليها النتائج المالية… مهرجان مونترو يدع الموسيقى والأفكار والثقافات تنساب بحرية

في زمنٍ أصبحت فيه صناعة الموسيقى أشبه بأسواق مالية مصغّرة، تُدار بالتحليلات البيانية ونجاحات البث الرقمي، يظهر مهرجان مونترو للجاز كاستثناء حيّ، وكمكان لا يزال يؤمن أن الفن ليس سلعة، بل رسالة. مونترو لا يسبح ضد التيار فحسب، بل يرسم لنفسه نهرًا خاصًا، تتلاقى فيه الأصوات والتجارب والثقافات، وتنمو فيه العلاقات الإنسانية تحت مظلة الفن.

أكثر من مجرد جاز

منذ انطلاقته عام 1967، ومهرجان مونترو يتطوّر دون أن يتنازل عن هويته. صحيح أن الجاز لا يزال جوهره، لكن الحدث بات فضاءً مفتوحًا أمام أشكال موسيقية متعددة: من الكلاسيكي إلى الإلكتروني، ومن التجريبي إلى التراثي. ما يجمعها ليس النمط، بل النية: أن تُقدّم موسيقى صادقة، قادرة على خلق صدى عاطفي وفكري لدى جمهور يقطع القارات ليحضرها.

مونترو لا يُقدّم عروضًا “للجمهور”، بل يخلق حوارًا معهم. تجد نفسك تستمع إلى فنانة صوفية تنشد بالعربية، ثم تنتقل إلى عرض تجريبي ألماني، أو فرقة أفريقية تمزج الإيقاع بالرقص، كل ذلك على ضفاف بحيرة هادئة في مدينة تبدو مصممة للتأمل، لا للضجيج.

الوقت يتباطأ في مونترو

من أكثر ما يلفت النظر في مونترو هو الإحساس بالزمن. في عالم يركض وراء الجديد، يُتيح لك هذا المهرجان أن تتوقف، أن تستمع فعلًا. لا شاشات عملاقة تملأ الفضاء، ولا ضغوط تجارية تفرض سلوكًا معينًا على الحضور. هناك فسحة حقيقية للتفاعل، للتأمل، للحديث مع شخص غريب فقط لأنكما تحمّستما للّحن ذاته. هنا، يعود الفن ليؤدي دوره الطبيعي: كوسيط إنساني، لا كأداة تسويق.

لقاء الثقافات: من الخليج إلى الكاريبي

أحد أبرز ملامح مونترو 2025 كان التنوّع الثقافي الهائل، سواء على المنصات أو بين الجمهور. وجود فنانين من العالم العربي، من بينهم وجوه شابة تعبّر عن الهويات المركّبة للجاليات في أوروبا، أضاف بعدًا سياسيًا وإنسانيًا إلى المهرجان. إحدى الليالي التي شارك فيها فنان فلسطيني-فرنسي، جذبت جمهورًا شابًا من أصول عربية وغربية على حد سواء، ما خلق حوارًا صامتًا بين الجذور والواقع، بين الموروث والحداثة.

الحضور من منطقة الخليج كان لافتًا أيضًا، ليس فقط من خلال الفنانين، بل من خلال جمهور راقٍ، متذوّق، جاء باحثًا عن تجربة ثقافية راقية بعيدًا عن صخب المهرجانات التجارية. كانت مونترو فرصة لاكتشاف سويسرا على نحو مختلف: ليس كوجهة سياحية، بل كمساحة للانفتاح، للذوق، وللأمان الثقافي.

الضيافة والتنظيم: تجربة سويسرية بامتياز

لا يمكن الحديث عن مونترو دون الإشادة بالتنظيم. من محطات القطار إلى مداخل القاعات، من تعامل المتطوعين إلى جودة الخدمات—كل شيء محسوب بدقة، لكن دون أن يفقد الطابع الإنساني. التنظيم في مونترو لا يُشعرك بالقيود، بل يمنحك الحرية لتعيش الحدث كما تشاء. تُتاح لك لحظات من العزلة، أو حوارات عفوية مع غرباء أصبحوا أصدقاء بسبب أغنية.

مونترو: صورة مصغّرة لسويسرا كما ينبغي أن تكون

في عالم يميل نحو الانقسام، تأتي مونترو لتذكّرنا بصورة مختلفة: سويسرا ليست فقط بلد المال والنظام، بل بلد التعدد، الحوار، والانفتاح. مونترو تُجسد هذه القيم بأبهى صورها. لا حدود هنا بين شمال وجنوب، بين عربي وأوروبي، بين مبتدئ وأسطورة. الجميع في حضرة الموسيقى سواء.

خاتمة: مساحة حرّة في عالم مزدحم

ما يُميز مهرجان مونترو هو أنه لا يسعى ليكون “الأفضل” وفق معايير السوق، بل الأكثر صدقًا. إنه مساحة حرّة، حيث تتنفس الموسيقى دون ضغط، وحيث تُولد الأفكار من لقاء النظرات لا من حسابات الخوارزميات. في مونترو، يتذكّر الناس أن الجمال ليس له جنسية، وأن الحوار لا يحتاج إلى لغة مشتركة إذا كانت الموسيقى حاضرة.

مونترو لا يُنافس… هو ببساطة يقدّم بديلًا. والبديل جميل.